الصحة النفسية: ثقافة غائبة عن مجتمعنا العربي
بقلم/ ندى علاء
لسنواتٍ طوال، تم حصر فكرة المرض النفسي في المجتمع العربي في مرض الجنون. يقضي المريض النفسي رحلة علاجه في الخفاء، خوفاً من أن يوصم بالعار أو الجِنة. بل أن البعض قد يُسَّرح من عمله أو يفقد حقه في الترشح و تمثيل فئة معينة لمجرد أنه تلقى علاجاً نفسيا يوماً ما! إن سألت أحد المارة في شارعك عن ماهية الصحة النفسية، أو الفرق بين المرض النفسي و المرض العقلي، فالتعجب سيكون الجواب. حتى أنه يتم تسمية مستشفيات الأمراض العقلية و المصحات النفسية ب "مستشفي المجانين"! تُرى مَن المسؤل عن تِلك الرؤية الخاطئة؟ لماذا نعتبر المرض النفسي "جريمةً" و "عيباً"؟
عندما تؤلمك معدتك، تكترث للأمر و تذهب للطبيب، و هكذا المرض النفسي لا يقل أهميةً و خطراً عن المرض العضوي، بل أنه في كثيراً مِن الأحيان يكون هو سبب وراءه. عزيزي القارئ/ عزيزتي القارئة، دعوني أُخبركم أولاً بماهية الأضطراب أو المرض النفسي: وفقاً لعالمة النفس كندرا تشري، المرض النفسي هو حدوث خلل في الوظائف المتعلقة في شخصية الإنسان نتيجة لحدوث انحراف عن السواء، وفي هذه الحالة يصاب الإنسان بالضيق وعدم قدرته على القيام بأي عمل يتعلق به، وتؤدي إلى الشعور الداخلي لدى الشخص بأنه يكره نفسه ولا يتقبلها. و ينتج بشكل أساسي من أحداث يمر بها الإنسان في حياته، و غالباً ما تكون أحداثاً مؤلمة وصعبة ومعقدة. و قد يكون سببها وراثياً، أو بيئياً نتيجةً لما يتعرض له الإنسان من ضغط مجتمعي. أما المرض العقلي، فهو حدوث اضطراب في التفكير يجعل الشخص يتعامل بطريقة غير سوية، و هو يختلف تمام الأختلاف عن الأضطرابات النفسية.لن تكون الأمراض العقلية محط اهتمامنا اليوم، لكن من الجيد الإشارة إلى أن الجنون مرض عقلي، و بالتالي تتضح حقيقة أن الجنون لا يمت بأي صلة للأمراض النفسية
وفقاً لإحصائيات منظمة الصحة العالمية لعام 2018، فإن أكثر الفئات التي تُعاني من الأمراض النفسية هي فئة الشباب، و أكثر تلك الأمراض انتشاراً في العالم العربي هم بالترتيب التالي: القلق و ما يُصاحبها من نوبات هلع ، يليها الأكتئاب ، يليه اضطراب ما بعد الصدمة و غيرها من الأضطرابات. و على الرغم من ذلك الأنتشار الواسع، إلا أن الوعي بالصحة النفسية و كيفية التعامل مع مَن يعانون الأمراض النفسية شبه منعدم. كما أن أسعار الاستشارات و الجلسات النفسية المبالغ بها يحجم شريحة كبيرة من الناس عن الحصول على العلاج الازم و الصحيح
فعندما يعاني مراهق من الأكتئاب - على سبيل المثال - يقابله الأبوين بسيل من اللوم و الأستنكار، و ينهاراه بعبارات على شاكلة "ألم تتناول اليوم عشاءاً شهياً؟" "ألم تشتري حذاءاً جديداً الأسبوع الماضي؟ لا داعي للحزن إذاً!". أو ربما يدعيان أن الحالة الدينية للمراهق هي السبب، فعليه الاستماع إلي بعض الخطب الدينية أو أن يقوم شيخاً بعمل "رُقية" له لتتحسن حالته النفسية. و الحقيقة أن ما من كل تلك "النصائح" هي علاجاً للإكتئاب. فتعريف الأكتئاب هو اضطراب المزاج الذي يسبب شعورًا متواصلًا بالحزن، وفقدان المتعة، والاهتمام بالأمور المعتادة، ونقص التركيز. وقد يكون مصحوبًا بالشعور بالذنب، وعدم الأهمية، ونقص تقدير الذات. ويؤثر في المشاعر، والتفكير، والتصرفات؛ مما يسبب كثيرًا من المشكلات العاطفية والجسدية، والتي بدورها تؤثر في أداء الأنشطة اليومية. وقد يسبب الشعور باليأس من الحياة، والتفكير في الانتحار، وربما الإقدام عليه في الحالات المتقدمة
و الحق أن مجتمعنا العربي يُمَثِل تربة خِصبة للأمراض النفسية: بدايةً من إجبار الأطفال إجباراً على التفوق الدراسي (و أحياناً الرياضي) لا خوفاً على مصلحتهم، بل حتى لا يوصموا بالفشل و يتعرضوا للتنمر حينما تتم مقارناتهم بباقي أطفال العائلة. ثُم يتحولون بعد ذلك إلى ذكرٍ شابٍ عليه الإلتحاق بإحدي الكليات المرموقة إما إستكمالاً لمسيرة أبيه المهنية، و إما تحقيقاً لحُلمٍ عجز أبوه عن تحقيقه من قبل. أما عن طموح الشاب، فلا يهم. بعد إنهائه لدراسته ناجحاً بالكاد، تبدأ رحلته للبحث عن وظيفة في سوق عملٍ سادته الوساطة و المحسوبية، تستمر الرحلة لسنوات حتى يحالفه الحظ في إيجاد عملٍ ما بعيد كل البعد عن تخصصه الدراسي، لكنه يقبله على أية حال، فموسم التزاوج قد بدأ، و علي الشاب في عشرينات عمره العمل لأكثر من 12 ساعة في اليوم الواحد دون كللٍ أو مللٍ لتكوين ثروة سريعاً، ليكون قادراً على المنافسة في "سباق العرسان" الذين يتهافتون على طلب يد حبيبته و تلبية متطلباتها من "مهر" و "شقة" و "شبكة" و غيرها الكثير (استمراراً لدائرة المقارنات)، لتتركه بعد ذلك من أجل أحد أقاربها القادم من الخارج مُحملاً بالهدايا و الأموال. و في النهاية يُفني سنوات عمره خلف مكتب أحدى المؤسسات ليتقاضي بضع جنيهات في نهاية كل شهر لا تُسمِن و لا تُغني من جوع
أما عن الأنثى، فعليها الألتزام بمقاييس الجمال التي يفرضها المجتمع متأثراً في ذلك بالغرب، مهما كلف الأمر من منتجات باهظة الثمن أو عمليات تجميل. تنشأ على مفاهيم سيدات الأسرة أن مهمة المرأة الوحيدة هي الأمومة و أعمال المنزل فقط، أنها كائن ضعيف ليس له حقوق و مصدر متعة للرجل، تقضي شبابها في انتظار "أبن الحلال" الذي يقدم أعلى سعر و يفوز بالمزاد. لكن ليس أمامها متسع من الوقت، عليها الزواج سريعاً قبل أن تسبقها إحدي فتيات العائلة (المقارنات مرة أخرى)، أو أسوأ، أن يفوتها القطار فتقضي بقية عمرها وحيدة. و ما إن يتم الزواج، حتى تبدأ المهمة الجديدة: الإنجاب. تلك الأخرى يجب أن تتم سريعاً، حتي لا يتزوج زوجها بأخرى تنجب له الذكر المنشود و الحفيد المنتظر. و بين هذا و ذاك، تجاهد الأنثى لتتحمل مزاج زوجها العكر في معظم الأيام و طلباته التي لا تنتهي، كأنه طفل مدلل تزوج بخادمة. و تكافح لإثبات جدارتها المشكوك فيها في العمل لمجرد أنها أنثى! و طوال حياتها تتحمل الكثير من المضايقات في الشوارع و المواصلات العامة و ربما التحرش دون أن تنبس ببنت شفة
تلك هي حال الإنسان العربي، مع وجود بعض الفروق التي قد تُؤثر بالسلب أكثر على الصحة النفسية، مثل العنف الأسري، فقدان أحد الأبوين و غيرها. بالطبع هي رحلة الحياة، لكن كان من الممكن أن تكون أقل بؤساً و سوداوية. تتسائل/ي الآن، عزيزي القارئ/ عزيزتي القارئة، عن سبب ذكري لكل ما سبق، أليس كذلك؟ دعني أُريحُ عقلك إذاً: تعرض الأنسان لما سبق يخلق بداخله ضغوط نفسية عديدة، و ربما أمراض نفسية لم تعالج نتيجة لإنعدام الوعي النفسي - كما أشرتُ سابقاً -. فكما أن إهمال المرض العضوي يؤدي إلي تفاقم الوضع و اشتداد حدة الأعراض، يؤدي تراكم الإضطرابات
النفسية إلي حالات مرضية متأخرة، ناهيك عن العُقد النفسية التي يتم توارثها عبر الأجيال، و ربما تخور قوة صاحبها و ينهار، أو يدمر حياة الآخرين. هي سلسلة موصولة الحلقات لا يُمكن قطعها إلا بالتغيير، بالوعي
مؤخراً، و مع ازدياد حالات الاكتئاب و الانتحار بين الشباب، و مع موجة الأضطرابات النفسية التي جلها فيروس كورونا المستجد معه مثل متلازمة الكوخ
(اضطراب نفسي ينتج عن العزلة الاجتماعية، ويواجه المصابون به صعوبة في الخروج من المنزل بعد المكوث فيه لفترة طويلة، ولا يستطيعون الانخراط مرة أخرى في المجتمع)، ظهرت بارقة أمل متمثلة في العديد من حملات التوعية بالصحة النفسية، خاصةً للشباب و الآباء، سواءً عن طريق الأنترنت أو عبر عقد الندوات. أبرز أهدافها هي التعريف بماهية المرض النفسي و أعراضه و كيفية التعامل معه و مع من يُعاني منه، و الحث على الحصول على الأستشارة العلمية من المتخصصين، مع مشاركة بعض القصص الملهمة لأشخاص استطاعوا التغلب على اضطراباتهم النفسية و مواصلة حياتهم بنجاح. أيضاً، انتشرت في الفترة الأخيرة طرق مساعدة على التخفيف من أعراض الأمراض النفسية مثل اليوجا أو تحديداً (يوجا الاستجابة الصدمات ). و شهدنا كمحاولة للحد من الانتشار الواسع للإضطرابات النفسية، و اهتماماً بمفهوم الصحة النفسية، قيام دولة الإمارات العربية المتحدة في عام 2016 بإنشاء وزارة فريدة من نوعها، ألا و هي "وزارة السعادة" برئاسة الوزيرة عهود الرومي
المرض النفسي ليس بالأمر المخجل، إنما المخجل حقاً هو الجهل به. فإذا طرقت يوماً بعض أعراضه بابك، فلا تتردد في القراءة عنه أكثر، فيجب أن تعرف عدوك جيداً لتتمكن من هزيمته. حاوط نفسك بمَن هم على دراية كافية بالصحة النفسية و يستطيعون مساندتك و تقبُلك. و بالطبع، أذهب لزيارة طبيب متخصص. أخيراً، الصحة النفسية ليست مجرّد غياب الاضطرابات النفسية فحسب، بل هي حالة من العافية تستطيع فيها إدراك إمكاناتك الخاصة والتكيّف مع حالات التوتّر العادية و زيادة انتاجيتك بشكل مستمر
Comments
Post a Comment